كتابات

الأحد - 01 مايو 2022 - الساعة 02:24 ص بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ ممدوح فراج النابي:


سؤال لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ واحد من الأسئلة التي تكررت صيغتها على مختلف الأجيال والثقافات، وطُرح في العديد من المناسبات، وعلى الرغم من تعدّد الإجابات إلا أنها جميعها اتصلت بماهية الأدب ودوره في حياتنا، ومن ثم كان قرين السؤال الأصلي تساؤلا آخر منبثقا عنه ومكملا له، مفاده: ماذا يُعلّمنا الأدب؟ وهل يستطيع الأدب أن يغيّر من حياتنا، أو يتصدى لما يواجهنا من أخطار؟ وإنْ طمح البعض إلى منح الأدب وظيفة تروم إحداث تغيير كلي في حياتنا وواقعنا.

مع إصرار الكثيرين من النقاد والكُتّاب على حدّ سواء، على الإجابة عن سؤال لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ إلا أن اختياراتهم للأعمال التي تمثّل الأدب الكلاسيكيّ – الموجّه بقراءته – تكاد تكون متعدّدة، لأنّها نابعة من ذائقة أدبيّة، قد تختلف من شخص إلى آخر، لكن اتفقوا ضمنيّا على اتخاذ بعض الأعمال كمعتمد أدبي، يجب على الأجيال الجديدة قراءتها، بل والعودة إليها بين الفينة والأخرى، إذا أخذنا بتعريف الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو بأن الأدب الكلاسيكي هو الذي تُعاد قراءته، والسبب في هذا الإلحاح على قراءة هذه الأعمال يعود إلى تأثير هذه الأعمال في نفوس قرائها، أو ما أحدثته من بنيات شكليّة أثّرت في أجيال لاحقة في تطوير عملية الكتابة.

ولئن اعترف الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو في محاضرة ألقاها في كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بتطوان (المغرب) عام 2020، وضمّها في كتابه “في جوّ من الندم الفكري” (دار المتوسط، 2021) بعد أن تساءل “ما الفائدة من قراءة القدماء، إنهم ليسوا من عالمنا، ينامون بسلام ولا يريدون منّا أن نوقظهم، لندع الموتى يدفنون الموت، قد نتردّد برهة في حكمنا ونفترض أن هناك، ربما، منافع ومزايا يمكن جنيها من مرافقتهم، لكننا سرعان ما نشيح بوجهنا عنهم ولسان حالنا يقول: ينبغي أن نقرأهم، لكننا لا نفعل”، اعترف بأنه لم يقرأ الإلياذة لهوميروس، وإن كان يعرف فحواها، ومع هذا الاعتراف لم يتوان عن تقديم مبررات الدعوة إلى قراءة الأدب الكلاسيكي.

اللحن الأخير

 من وجهة النظر الأخرى تعتبر هذه الأسباب بمثابة منافستو للأجيال الجديدة لقراءة الكلاسيكيات، وترغيبا لهم في العودة إلى الأدب العالمي الكلاسيكي، ومن هؤلاء الكتاب الذين لم يبخلوا بمثل هذه الوصايا – غير الإلزامية، إيتالو كالفينو في كتابه “لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي”، الصادر بترجمة دلال نصري عن دار المدى، والكتاب لا يقدم إجابات مباشرة للسؤال المطروح على غلاف الكتاب، أو حتى يغفل الإجابة عنه، وإنما يقدم أسبابا قوية لقراءة مثل هذه الكلاسيكيات، ولا يتوقف عند التيمات المهيمنة، وإنما ينشغل بصورة كليّة بالتقنيات، وطرائق السرد، وهي جميعها تتجه إلى تبنّي استراتجيّات حداثيّة، مغايرة عمّا هو سائد في عصرها


يبدأ كالفينو أولا بتعريف الكتب الكلاسيكيّة، وهي عنده “الكتب التي يشير أغلب الناس إليها بأنا أعيد القراءة، وليس أنا أقرأ”، ثمّ يعدّد لنا تعريفات كثيرة حول ماهية الكتب الكلاسيكية، فمثلا هي الكتب التي نكتشف جديدا كلما أعدنا قراءتها، أو هي الكتب التي إذا قرأتها ينتابك شعور بأنك قرأتها من قبل، أو هي الكتب التي لا ينضب محتواها، أو هي الكتب التي نعتقد أننا أحطنا بمضمونها، مهما قيل لنا عنها، لكننا نكتشف أنها أكثر أصالة، ومبتكرة، وتنافي توقعاتنا، كما أنها تعين الإنسان على فهم ذاته.

على الرغم من تعداده لـ14 تعريفا للكلاسيكيات مبرزا أهميتها في حياتنا، يقرّ بحقيقة خالدة مفادها: أن الكلاسيكيات تبدو في ظاهرها متعارضة مع وتيرة حياتنا التي تخلو من فترات الرّاحة والترويح، كما يبدو أنها تتعارض مع ظاهرة الانتخاب الثقافي، الذي يعجز عن إيجاد دليل أو قائمة للأعمال الكلاسيكيّة المناسبة لنا، ويقرّ في النهاية بأن السبب الوحيد الذي يدفعنا إلى قراءة الكلاسيكيات هو “أن قراءتها أفضل من عدم قراءتها”، مستعينا بمقولة سقراط عندما سُئل عن تمرُّنه للعزف  وهو هالك لا محالة، فقال “يكفيني عزف هذا اللحن قبل مماتي”.

بعد هذا العرض لأسباب قراءة الأدب الكلاسيكي، يقدّم لنا مختارات من الكتب التي قام بقراءتها ودوافع هذه القراءة، في محاولة لحضنا على استبصار الجماليات أو المعاني العميقة التي يكتشفها في هذه النصوص، ومن ثمّ لا يجب علينا أن نأخذ مثل هذه المختارات بشكل عفوي، أو خال من المعاني، فالعكس هو الصحيح، فالمختارات تأتي من ذائقة كاتب، ومن ثمّ تبرز هذه المختارات الحسّ النقديّ لديه، فمعظم المختارات ناتجة عن أسباب تتصل بذائقته في القراءة، واحتياجاته الخاصّة سواء على مستوى التجريب أو نمط الكتابة، أو ما تتركه من أثر مقارنة بنظيرتها في الآداب الغربيّة على نحو ما وجد في حكايات الأميرات السّبع للشّاعر الفارسي نظامي، والتي يعتبرها فذّة في استعاراتها وتصويراتها التي لا يضاهيها أيّ كتاب مهما بلغت شهرته وقوته في الغرب، كأدبيات شكسبير وأريوستو.

وقد يتخذ بعض الأعمال لمناقشة صعود نوع أدبي، أو إحلال نوع محل آخر، فمثلا يقارن بين صعود الأدب الفروسي، أو الكتب الفروسية، الذي كانت فيه خلال القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر، أوّل كتب علمانية، وكان لهذا الانتشار أثره العميق على المتعلمين، والناس العاديين، ثم صعوده/ها من جديد في القرن السادس عشر في إيطاليا وأسبانيا، مقابل اختفائه/ها في فرنسا وقبلها إنجلترا.

وقد يأتي الاختيار لإشادته بالقيم التي تروّج لها الأعمال، فرواية “روبنسون كروز” لدانييل ديفو، على الرغم  من أنها تنتمي إلى الأدب التجاري، إلا أنها تمجّد المبادرة الفرديّة، ففيها يشيد بالبيداغوجيا الأخلاقيّة، مثل طاعة الوالدين، والطبقة الوسطى، والوجود البرجوازي، إضافة إلى أن كتابته تحتفي بصراع الإنسان المتأنّي مع المادّة، وتبجيل التّواضع، والصعوبة، والفرح المصاحب لصنع الأشياء بأيدينا. فالقيمة الحقيقية للإنسان في أعماله، إلى جوار أعمال روسو وصولا إلى همنجواي، فمقياس قيمة الإنسان الحقيقي ينبع من تجاربه لفعل شيء ما، بغض النظر عن قيمتي النجاح أو الإخفاق المصاحبتين للفعل.

وقد تكون قيمة العمل هي الدافع من وراء اختياره، فرواية مارك توين “هلكبري فن والحياة في المسيسبي”، منحت صوتا وشكلا للحياة الأميركيّة العمليّة الرتيبة، كما تتميّز أعماله القصصيّة بإمكانية تحويل الثّقل اليومي إلى تجريد خطيّ، ولعبة آلية ومخطط هندسي. وبالمثل يجد في قصص كونراد لا مجرد قصص مغامرات، بل آراء جديدة عن البشر، أحداثا ودولا تفوق التوقعات، وتساعد على فهم العالم بشكل أوضح، فهو مهووس بالجمال، عاشق بالتلاعب بالعواطف، متجردا في الكتابة عن أي بلاغة، أدبيّة وجماليّة، التي تظهر في النهاية.

معايير الاختيار

ليس سبب اهتمام كالفينو بالكتب هو ثراء موضوعاتها أو غرائبيتها، على نحو ما رأى في كتاب “رحلة إلى ولايات الشمس” لسيرانو دو بيرجيراك، التي تسبق رحلات جيلفر في بعض المواضع، فإعجابه بالكتاب يتأتى بسبب الوسائل التي ذكرها للصعود إلى القمر، فالخيال عنده نابع من شعور كوني صادق قاده إلى محاكاة فلسفة لو كريتيوس الذرية، بل أحيانا يكون سبب الإشادة الجانب الفني، كما في إعجابه الشديد بالأميرات السّبع لاحتوائها على نسيج لفظي تتميّز به الحكايات، وهو في غاية الفخامة، ينبع من الاستعارات والمجازات التي يندر وجودها في أي آداب.

 والإعجاب بسبب البنيات الحكائيّة يتردد أيضا في ملحمة أورلاندو الثائر، لأريوستو، لما تتمتع به من انتقالات تحدث تأثيرا عند القراءة، باستخدامها للإيقاعات المتنوّعة للغة المحكيّة، أو ما أطلق عليه فرانشيسكو دي سانكتيس، ببلاغة “كماليات اللغة الضرورية”. وأحيانا هناك الروايات التي تجمع بين السرد الشفوي والدهشة والسذاجة المتمثّلة في الحكاية الشعبيّة، والمثال على ذلك كتاب “ثلاث حكايات” لغوستاف فلوبير.

الارتكان إلى الجانب الفني وبراعة الصياغة، هو المعيار الأساسي في اختياراته، فرواية “كنديد” لفولتير، ليست قيمتها في كونها قصة فلسفيّة، أو هزليتها، أو حتى ظهور القيم الأخلاقيّة ورؤية العالم، بل بسبب إيقاعها المتسارع والخفّة، وتعاقب النوائب والعقوبات والمجازر في صفحة، وتشعبها من فصل إلى آخر. والأهم هو تراكم كارثة فوق كارثة بسرعة شديدة، وهي التقنيّة التي سيعوّل عليها في السينما الكوميديّة.

التقنيّة هي إحدى الأدوات المهمّة التي يعوّل عليها في النماذج المختارة، فرواية جاك القدري ومعلمه لديديرو، تتسم بالصراع الذي أوجده ديديرو بين المؤلف الذي يسرد الحكاية، والقارئ الذي ينتظر سماعها، ففضول القارئ وتوقّعاته وإحباطاته واحتجاجاته المعارضة للنيات، تقابلها جدالات وأهواء الكاتب في تحديد كيفية تطوّر الحبكة لتخلق حوارا شاملا يؤطر حوار البطلين المحورين مع بعضهما، كما يؤطر حوارات أخرى. وبهذه الألعاب التي أدخلها ديديرو لنصه، وكأنه يتمرد على أسس السرد الكلاسيكي ويؤسس لبنية سرديّة جديدة تتبنّى السّرد الحرّ، والاستطرادي، يمكن وصفه بـ”سرد مؤجل”.

فالقصة مكتوبة على هيئة اللعب الصينيّة، أيّ أن الحكاية تبدأ بغراميات، ثم تحدث مقاطعات، واستطراد، وتنضم قصص جديدة إلى القصة الأساسيّة، وهو ما يمكن تسميته بقصة داخل القصة، ولا تختم القصة الأولى إلا في النهاية، فعنده أن ما كتبه قديما وما تعارض مع الأدب والفلسفة آنذاك، تنطبق عليه الآن كتابة أدبيّة أصيلة، وهو ما حدا بميلان كونديرا إلى أن يعتبر رواية “جاك القدري” تجسيدا مسرحيّا معاصرا. كما كانت لديه قدرة على المزج بين الرواية العاطفية والرواية الوجودية، والفلسفيّة، والساخرة.

وهناك الحبكة وأسلوب السرد كما في رواية “صديقنا المشترك” لديكنز، علاوة على تصويرها المعقّد للمجتمع وصراعه الطبقي. وقد تكون الموسيقى المتسارعة والحيويّة التي تأسره كما هو متحقّق في رواية “دير بارما” لستندال، وتأثير الموسيقى يجعله يعود إليها أكثر من مرة، على اختلاف مراحل حياته التي تغيّرت فيها ذائقته وأهواءه. وأحيانا يكون السبب لأن رواية ستندال تسقط المغامرات الستنداليّة على تجاربه، رغبة في تغيير تجاربه كما فعل دون كيخوته. وهناك أعمال لها أهميتها في التأريخ للمكان على نحو رواية تاريخ الثلاثة عشر لبلزاك، التي عُدّت حسب كالفينو “أطلسا لباريس”.

ويدخل ضمن الأسلوب النسيج اللفظي الذي تتميز به حكايات الأميرات السبع، فهو في غاية الفخامة، ويجزم بأن لا نظير لها في الأدب الغربي، بل تتجاوز المقارنات الموضوعاتية للقرون الوسطى، وخصوبة خيال أعمال عصر النهضة التي كتبها كل من شكسبير وأريوستو، فعالم الاستعارات والمجازات في القصص له خصائصه المميزة، كما إنه يكشف عن تعدد الأغراض. وعن رواية “الدكتور جيفاكو” لباسترناك “إننا نعثر على مغزى الرواية في كم أفكارها، وفي حاصل صورها، وفي أحاسيسها، وفي الحياة والصمت”.

ومن المختارات التي يقدمها إيتالو كالفينو: الأوديسة (هوميروس)، وأنانابيس (زينوفون)، والتحولات (أوفيد)، والأميرات السبع (نظامي)، وكتاب الطبيعة (كاليلي)، وجاك المؤمن بالقدر ومعلمه (ديديرو)، وثلاث حكايات (فلوبير)، وشخصيات من روايات بلزاك، والفارسان (ليو تولستوي)، وديزي ميلر (هنري جيمس)، وقباطنة (جوزيف كونراد)، ولربما ذات صباح (إيو جينيو مونتاله)، وهمنجواي وخورخي لويس بورخيس وآخرين.

الصفة الجامعة لهذه المختارات التي يصفها بالكلاسيكيّة أنها لا تقف عند عصر بعينه ولا بقعة جغرافية محددة، كما أنها لا تتوقف عند نوع أدبي، وإنما تشمل الأدبي، كالملحمة والشعر والرواية، وغير الأدبي مثل الفلسفة وكتب الثورات والكتب العلمية، وكتب الخيال العلمي، والموسوعات وغيرها، وهو يُعطي انطباعا بموسوعيّة قراءات كالفينو، الذي لم يتوقف عند قراءة التراث الإيطالي فقط، بل هو أشبه بسياح يطوف في كل المعارف، وبمختلف الاتجاهات، ويقطف من كلّ بستان زهرة.

يستخلص كالفينو من كلّ كتاب يقرأه السّمات الجماليّة والفنيّة، ونقطة الضوء التي يكشف عنها الكتاب، ويربط الدلالات المستنتجة بالواقع الراهن الذي عايشه، فمثلا في الأوديسة يخبرنا بأن أهم عنصر فيها هو فعل العودة، فالرحلة في حدّ ذاتها لم تكن ذهابا فقط، بل وإيابا أيضا، وبناء على حافز العودة كان يجب على يوليسيس ألا ينسى طريق العودة الذي ينبغي أن يسلكه، فيعود يوليسيس إلى إيثاكا وهو شيخ هرم. لكن عودته ارتبطت بفقدان هويته، ففي إيثاكا لم يتعرّف عليه أحد، وعند استيقاظه لم يتذكّر وطنه الأم.

في قراءته للأوديسة يقرأها من منظوره الشخصي، فيعيد ترتيب الحكاية وفقا لتلقيها هو، فيربط بين نسج بينيلوبي وحصان طروادة، وكلاهما قائم على خدعة ونتيجة مهارة يدوية، وبهرجة. وبصفة عامة كما يقول إيتالو كالفينو: إذا تمعّنا في الحكايات التراثية، سنلاحظ أنها تقدّم نوعين من التحولات الاجتماعية، لكل منهما نهاية سعيدة.

أما أصالة الأوديسة فتكمن في وجود بطل إسطوري مثل يوليسيس يصارع السّاحرات والعمالقة والوحوش وآكلي البشر، في مواقف تعود لقصص بطولية أكثر قدما، وتعود جذورها إلى عالم الأساطير الأثير، وحتى إلى عالم السحر البدائي، ومعتقدات الكهنة، وكأن كاتب الأوديسة يبيّن لنا حداثته الحقيقيّة التي تجعله يبدو قريبا منّا معاصرا لنا. وفي النهاية يتساءل: هل الأوديسة أسطورة جامعة لكل الرحلات؟ فالفارق بين الحقيقة والكذب معدوم عند يوليسيس، بها أعاد هومر سرد ذات التجربة بلغة الواقع، بلغة الأسطورة، تماما كما تبدو كل رحلة نخوضها نحن اليوم، مهما كانت كبيرة أو صغيرة عبارة عن أوديسة، التي هي ذات طابع حداثي، طابع يجعلها قريبة منا، وتعكس عالمنا الواقعي الذي يجتاحه العذاب والألم، عالما لا مفرّ للإنسان منه، فتبدو الأوديسة وفقا لذلك إعادة سرد لكلّ رحلة يقوم بها الإنسان مهما بلغ صغرها أو كبرها.

وعن أناباسيس يقول إن قراءتها اليوم أقرب “إلى مشاهدة فيلم وثائقي عن حرب، ويُعاد عرضه بين الحين والآخر على شاشة التلفاز أو أشرطة الفيديو”، والكتاب يحتوي على صور بصريّة، وقصص، وتوصيف لعادات غريبة، كما يتميّز ببنية قائمة على سيل متدفّق من المغامرات الشيّقة، والعقبات المفاجئة، وبهذا يكون الكتاب “أشبه بسجل دوّن فيه أناباسيس المسافات المقطوعة، والإحداثيات الجغرافيّة، وتفاصيل توريدات الخضار، والمواشي، كما دوّن فيه كذلك الإشكاليات اللوجستية والاستراتجيّة، والدبلوماسيّة على اختلافها وحلولها.

لا يكتفي كالفينو بتفكيك النص، وما يحتويه من بنيات صغرى وكبرى، وربطه بسياق العصر الذي يعيش فيه، وإنما يقدم تقييما لأسلوب الكاتب مقارنة بالكتاب الإنجليز، فيقول: زينوفون كاتب نموذجي في مجال الحركة (الأكشن) إذا ما قارناه بمن يكافئه من الكتاب المعاصرين – كولونيل ت.إ. لورانس – إضافة إلى أن كتابة الكاتب الإنجليزي رهين بالأحداث المحيطة به، خاصة ما هو متعلّق بمشاهد حنين الجنود للعودة إلى منازلهم، وشعورهم بالتيه في بلد غريب، صراع الجيش في سبيل العودة إلى الوطن بعد الهزيمة، فهذه المشاهدة تجعل الكتاب قريبا من الأدب الإيطالي الحديث، كمذكرات قوات ألبيني الإيطالية أثناء عودتها مشيا، وهي تجر أذيال هزيمتها قادمة من روسيا وتوصيفاته محاطة بهالة من الجمال، وتساؤلاته الأخلاقية تتكشف بعد تفكيك النص. هذه رؤية ناقد ممزوجة بعين مبدع صاحب خيال خلّاق.




المصدر: العرب اللندنية