مدى الثقافي/ أحمد جمال/ العرب:
رحل الفنان والإعلامي المصري سمير صبري الجمعة وترك خلفه بصمة واضحة في تاريخ السينما والتلفزيون والإعلام، بعد أن تمكن من تقديم العديد من الألوان الفنية التي تعد إرثا مهما مسجلا بالصوت والصورة، من خلال لقاءاته التي مزجت بين الفن والسياسة والثقافة، حيث قدم أعمالا متنوعة تستحق أن يطلق على صاحبها لقب “جبرتي الفن المصري”.
طوى سمير صبري رحلة فنية وإعلامية حوت أكثر من 217 عملا في مجالات مختلفة على مدار تاريخه، والذي بدأ منذ أن كان طفلا في العاشرة، وكرّس خلالها منهجا يصعب على البعض تحقيقه، وهو قدرته على أن يكون فنانا شاملا، وتميز بقدرته على الحضور في الأعمال التي شارك فيها بنفس درجة الدقة، ما جعل نقادا لا يفصلون بين مواهبه المتعددة في التمثيل والغناء والاستعراض وتقديم البرامج.
انتهج سمير صبري، والذي ترجل بعد عام على رحيل رفيق دربه سمير غانم، طريقا مضى فيه طوال حياته، وهو أن يكون فاعلا في تطورات المشهد الثقافي العام، ولم يغب عن الأنظار في أي من المحافل والمحطات المهمة، وكان شريكا رئيسيا في صناعة الكثير من التطورات الثقافية، واحتفظ لنفسه بصبغة مختلفة عن غيره ممن يطلون على الشاشات، وهدف أن تكون المعرفة المصدر الرئيسي الذي يقدمه للجمهور والابتعاد عن الخوض في قضايا لا تحمل فائدة للمجتمع.
رحل الفنان الشامل عن عمر يناهز 86 عاما، ودشن عبر برنامجه “النادي الدولي” في سبعينات القرن الماضي لعصر البرامج الحوارية أو ما يطلق عليه في الوقت الحالي “التوك شو”، وكان أول من أدخل تقنيات حديثة للتصوير تحت الماء لأول مرة في تاريخ السينما المصرية عبر إنتاجه فيلم “جحيم تحت الماء” في ثمانينات القرن الماضي، وكان أشبه بمغامرة مجنونة.
انعكس شغف الفنان المصري في الحضور والحكي والثراء المعرفي على سماته الشخصية وعلاقاته في الوسط الفني والإعلامي، ويشهد له زملاؤه بدعمه المستمر لهم في أزماتهم، وكان حاضرا بشكل مستمر في الفعاليات والمهرجانات واللقاءات التي تجمع أطيافا ممن لديهم ارتباطات مباشرة بالثقافة والفنون.
واستطاع أن ينسج شبكة قوية من العلاقات مع أجيال مختلفة من الفنانين والإعلاميين، ليصبح موسوعة متحركة يبحث عنها كل من يسعى لتوثيق التاريخ الفني المصري.
ونعى عدد كبير من نجوم الوسط الفني المصري والعربي الفنان الراحل، وبدا أن هناك إجماعا على عطائه الإنساني الذي لا يقل قيمة عما قدمه خلال مشواره الفني.
وقالت وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم “إن الراحل من عظماء الإبداع وتميز بتعدد المواهب والثقافة الواسعة، ويمثل إحدى ركائز نجاح الأعمال الفنية المتنوعة الذي شارك بها”.
ولد محمد سمير جلال صبري في السابع والعشرين من ديسمبر من العام 1936 بمدينة الإسكندرية، ثم انتقل إلى القاهرة للعيش مع والده عند انفصال والديه، وسكن بذات العمارة التي كان يسكنها المطرب الراحل عبدالحليم حافظ والتقيا وقاده ذلك إلى دخول مجال الفن.
وظهر على الشاشة لأول مرة ضمن “المجاميع”، وهم ممثلون صامتون في خلفية المشهد، في أغنية عبدالحليم حافظ بفيلم “حكاية حب”، وكان في المشهد الإعلامية آمال فهمي ورشحته لتقديم برنامج “النادي الدولي”، وانتقل به من الإذاعة إلى التلفزيون.
حاور صبري عددا كبيرا من المشاهير والأعلام، منهم الموسيقار محمد عبدالوهاب والشاعر أحمد رامي والبابا شنودة والممثلة أمينة رزق، وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وسعاد حسني ووردة الجزائرية.
كان أول إعلامي يجري حوارات مع السلطان قابوس بن سعيد حاكم سلطنة عُمان، ورغم انشغاله بالتمثيل والإنتاج ظل صبري محافظا على وجوده الإعلامي.
في مجال التمثيل بدأ مشواره بأدوار صغيرة في أفلام مثل “اللص والكلاب” و”هارب من الزواج”، قبل أن يصبح بطلا لعدد من الأفلام خلال حقبتي السبعينات والثمانينات، وأبرزها “بمبة كشر”، و”الأحضان الدافئة” و”البحث عن فضيحة” و”رحلة الأيام” و”بالوالدين إحسانا” و”شفاه لا تعرف الكذب” و”الجلسة سرية” و”التوت والنبوت” و”نشاطركم الأفراح” و”القتل اللذيذ” و”جحيم تحت الأرض” وأخيرا فيلم “حدث في 2 طلعت حرب”.
وأنتج عددا من الأفلام منها “أهلا يا كابتن” و”السلخانة” و”منزل العائلة المسمومة” و”دموع صاحبة الجلالة”، و”إنذار بالقتل”، وشارك في أكثر من ثلاثين مسلسلا، أبرزها “أم كلثوم” و”قلب الدنيا” و”حضرة المتهم أبي” و”قضية رأي عام” و”حق مشروع” و”عدى النهار” و”فلانتينو” مع الفنان عادل إمام.
قال الناقد الفني أحمد سعدالدين لـ”العرب” إنه كان بمثابة موسوعة فنية تمشي على الأرض، لقدرته على الجمع بين كافة ألوان الفنون، واستطاع أن يظل طيلة 64 عاما منذ أن بدأ مشواره الفني في المقدمة، وإن اختلفت أذواق الجمهور واهتماماته.
وحقق كمقدم وإعلامي ما لم يحققه كثيرون ممن اقتصرت أدوارهم على هذا المجال، وساعده امتلاكه ذاكرة فولاذية على أن يصبح قادرا على مذاكرة ضيوفه وتقديمهم للجمهور بصورة جذابة.
وأضاف سعدالدين “برحيل سمير صبري افتقد الإعلام المصري المذيع المثقف الذي لديه كاريزما تجعله محط أنظار الضيوف والمشاهدين، فقد فقدنا فنانا امتلك قدرة عالية على توظيف مجموعة من المهارات التي يمتلكها في أشكال فنية عديدة من دون التقيد بلون واحد، على أن يكون ذلك من خلال تقديم أعمال فنية غزيرة ومتنوعة قادرة على إثراء تاريخ السينما والدراما المصرية”.
وأثارت وفاة الفنان المصري جدلا من نوع آخر بعد أن لحق بعمالقة الفن المصري الذين سطروا قوة الدولة المصرية الناعمة، وبدت هناك تساؤلات حول قدرة الأجيال الحديثة على استكمال المشوار الذي خطه السابقون ممن رحلوا الأعوام الماضية.
ويعد سمير صبري من أبرزهم، ما يجعل هناك حاجة ملحة إلى إعادة توجيه اهتمامات الدولة إلى الثقافة والفنون بصورة شاملة، ليس فقط من خلال إنتاج الأعمال الدرامية والفنية، لكن عبر خلق أجواء مواتية لصناعة نخبة صاعدة.
واتسمت النخبة المصرية التي عاصرها سمير صبري بمساحات واسعة للحركة استطاعت أن تطلق نهضة ثقافية وفنية، فمجالات الإعلام على وجه التحديد هي من تعاني بشكل أكبر من عدم وجود نخبة قادرة على تعويض الأسماء التي رحلت.
وقدّم صبري مجموعة من البرامج الناجحة، أبرزها “هذا المساء” و”النادي الدولي” و”بدون كلام” و”كان زمان” و”ليلة في شارع الفن”، وأخيرا برنامج “ذكرياتي” الذي قدمه على إذاعة الأغاني، واستمر في تقديمه حتى وفاته، وقام بتسجيل بعض حلقاته في أثناء مكوثه بأحد مستشفيات القاهرة قبل شهرين تقريبا.
تميزت البرامج التي قدمها الفنان المصري بالبساطة والغوص في تفاصيل الحياة الفنية والسياسية لضيوفه دون أن يتطرق إلى حياتهم الشخصية، ولعل ذلك ينبع من قناعة داخلية لديه بأن حياته الشخصية لابد أن تكون في معزل عن الرأي العام.
ومع أن الراحل طالته العديد من الشائعات التي كان مصدرها الأساسي الاكتفاء بالزواج من فتاة إنجليزية في مقتبل عمره، إلا أنه دائما ما كان يحرص على عدم الخوض فيها والاستغراق في الرد عليها.
يبدو أن كتابه الذي صدر قبل عامين ونصف العام بعنوان “حكايات العمر كله” كان بمثابة مذكرات دوّن فيها تاريخه الفني من دون أن يغوص في تفاصيل من حياته الشخصية، مكتفيا بالتأكيد أن حكايته مع الحب لم تنته أبدا، قائلا “خلال رحلتي الطويلة مع الفن أحببت ثلاثا من زميلاتي، لن أصرّح بأسمائهن، ومن كل تجربة حب استفدت أشياء كثيرة، ومازلت أكنّ لهن كل الحب والاحترام، وتربطني بهن صداقة وزمالة أعتزّ بها”.