مدى برس/ العرب/ فاروق يوسف:
"لا بدّ من صنعاء" ذلك هو عنوان كتابه الشعري الذي صدر عام 1972 أي قبل خمسين سنة. و"لا بدّ من عبدالعزيز المقالح" لكي تكون اليمن موجودة على خارطة الشعر العربي بل وخارطة الوعي الثقافي العربي.
كان المقالح سفير اليمن الشعري إلى الخارج وممثل الشعر العربي في اليمن. لذلك كان الشعراء العرب بمختلف مستوياتهم وتوجهاتهم يتوافدون على عدن وصنعاء كما لو أنهم يذهبون إلى بيوتهم.
كان المقالح صديق كل الشعراء العرب. ولم يكن الاختلاف في الأفكار السياسية ليشكل حاجزا يقف ما بينه وبين أحد. كان الشعر وحده هو بوصلة صداقاته الممتدة من المحيط إلى الخليج.
في الوقت نفسه كان المقالح حاضرا في الأوقات التي سبقت الانقلاب الحوثي في المشهد السياسي فهو صديق الرؤساء، من عبدالسلال إلى علي عبدالله صالح. الأهم من ذلك أن التعليم في اليمن شهد تطورا نوعيا كبيرا أثناء رئاسته للجامعة. فالرجل كان منفتحا على أساليب التعليم الحديث ووسائله وتقنياته ومقوماته. ومثلما كان رائد الحداثة الشعرية في اليمن فإنه كان واضع أسس التعليم الجامعي الحديث.
المعلّم بثوبه الأكاديمي
استقبلت الجامعة اليمنية يوم كان رئيسا لها كبار المدرسين العرب، سواء من خلال ضمهم إلى كادرها التعليمي الثابت أو من خلال استضافتهم زوارا مؤقتين.
"الشعر هو البقية الباقية التي تحفظ لأرواحنا شفافيتها ورؤيتها الصحيحة". هذا ما قاله رائد التنوير الذي صار يرى بلاده تعود إلى العتمة التي يُفترض أنها غادرتها بعد التحرر من نظام الإمامة.
لقد شعر الرجل في لحظة يأس أنّ لا شيء سوى الشعر سيبقيه على قيد التنفس في بلاد تلوث هواؤها بالأفكار والطقوس والسياسات الظلامية التي لا يمكن للشعر سوى أن يقاومها. كانت صنعاء وهي المدينة التي عاش فيها الجزء الأكبر من حياته تختفي تحت غبار العمائم لذلك صار يكتب لها ومن أجلها النشيد تلو الآخر.
بالنسبة إليه وهو الذي عمل على الارتقاء ببلاده حضاريا ما من صنعاء أخرى. صنعاؤه هي الـ”صنعاء” الوحيدة التي يمكن أن تكون شاهدا على يوم القيامة. كانت صنعاء هي مختبره الشعري وهي قيامته.
حين أغمض المقالح عينيه للمرة الأخيرة يوم 28 نوفمبر الماضي انتبه الكثيرون أنهم من خلال رثائه إنما يرثون اليمن، وبالذات صنعاءه التي عمل من أجل إضاءة أرواح سكانها بنور الشعر.
ولد عام 1937 في قرية المقالح بمديرية السدة من أْعمال محافظة إب جنوبي اليمن. تعلم هناك مبادئ القراءة والكتابة وانتقل بعدها إلى صنعاء ليدرس على أيدي كبار علمائها ويتخرج عام 1960 من دار المعلمين. غادر بعد ذلك إلى القاهرة وحصل عام 1977 على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس بعد أن كان قد حصل على الماجستير من الجامعة نفسها عام 1973.
ما بين عامي 1982 و2001 ترأس المقالح جامعة صنعاء بعد أن كان مدرسا فيها. كما تولى رئاسة المجمع اللغوي اليمني وكان عضوا في المجمعين اللغويين في القاهرة ودمشق. وأخيرا أصبح مستشارا ثقافيا في رئاسة الجمهورية وهو منصبه الأخير.
أصدر 33 كتابا توزعت بين الشعر والنقد والبحوث الأكاديمية. انطلاقاً من العام 1972 عندما أصدر كتابه الأول ”لا بدّ من صنعاء” وحتى العام 2018 حين أصدر كتابين؛ الأول شعري هو “بالقرب من حدائق طاغور” والثاني كتاب نقدي هو "ذاكرة المعاني".
طوق نجاة
حاز على وسام فارس في الآداب والفنون من فرنسا. وقبلها نال جائزة أحمد شوقي من اتحاد الكتاب في مصر. وقد منحته مؤسسة العويس في الإمارات عام 2010 جائزتها.
لم يعد الشعر طوق نجاة
في قصيدته "آه" يقول المقالح:
"آه يا وطني
الشعراء في ذرى الأوليمب عند قوس النصر
يفتشون عن أغاني الحب
عن فينوس
وأنت مصلوب وليلك العبوس
ينام في العيون
أشباحه المدى
تداعب الأعناق تحصد الرؤوس
تحترق النجوم في سماك تطفئ الشموس
والشعراء صامتون
على مشانق الحروف ميتون".
حين انهارت الدولة الحديثة في اليمن أدرك رجل الحداثة والتنوير أن في صدره “آه” بحجم وطن ضائع، غير أنه في الوقت نفسه كان ينظر بأسى إلى الفشل الذي انتهت إليه محاولات أجيال من الشعراء من أجل أن يكون لهم محل في إعراب البناء الإنساني الذي أثبت أن مقاومته أضعف من أن تقف أمام رياح التخلف بظلاميتها. لقد أطبق المقالح عينيه على اليأس، حيث صار الخراب يحيط به من كل الجهات. حتى الشعر لم يعد طوق نجاة.
لقد عاش المقالح كل التحولات السياسية التي شهدها اليمن عبر الانقلابات العسكرية التي كانت تنطوي على رغبة مضللة في التحرر من القيم العشائرية وفي الوقت نفسه كان يكتب شعرا ويرعى شعراء، هم أبناء زمن آخر. فإذا به في نهاية حياته يكتشف أن في إمكان الصدام بين القوتين أن يدفع بمحاولات التحديث كلها إلى الهاوية. وهو ما لم يكن مهيئا لملاقاته. لم تعد اليمن يمنه ولا صار في إمكان الشعر أن ينوء بحمل ذلك الشعور بالأسى.
خشونة التاريخ
ظل وفيا لمواصفات القصيدة الحديثة كما انتهى إليها رواد الشعر العربي الحديث، وبالأخص بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي. ظل حريصا على الإيقاع الخارجي والوصف والوقوف عند القافية بين حين وآخر. غير أن المقالح بالرغم من أنه لم يخرج بموهبته من تلك المنطقة فإنه لم يكن محافظا أو متشددا في تعامله مع محاولات التحديث التي انتقلت بالقصيدة العربية خارج منطقة الحداثة الأولى.
ولكن هل كان المقالح يدرك أن الشعر عبارة عن حيلة مؤقتة أراد من خلالها أن يفرض حلا ناعما ومترفا على مجتمع متشبث
بمشكلاته التي تمتد بجذورها إلى عصر ما قبل الدولة؟
بالنسبة إلى المقالح وهو رجل شعر وسياسة كان الشعر رهانا يتخطى المسلمات الثقافية السائدة ومن خلاله استطاع أن يحرك الواقع الثقافي الراكد. كانت السياسة هي الحائط الذي استند إليه المقالح في تنفيذ مشروع انفتاحه الشعري على العالم. أما وقد سقط ذلك الجدار بطريقة رثة تتضمن الكثير من عناصر الفوضى فقد لجأ الشاعر إلى كتابة المرثيات.
يقول المقالح:
"وطني
مغلقة أبواب الله
ولم يبق سوى باب مفتوح
ذلك باب السلم
وآن لنا أن ندخله طوعا أو كرها
ولنعلن للملأ الحائر
أن ثلاثة أعوام
من عمر الدم النازف
تكفي".
لم يكتف برثاء الوطن بل رثى أيضا مشروعه الشعري الذي كان في أساسه مشروعا تنويريا وطنيا. يقول:
"أبعدوا الشعر عني
خذوه بعيدا
بعيدا
فقد رابني
أثقلت روحيَ الكلمات
وأجهدني البحث عن لغة
لا تموت إذا هطلت
في سطور الكتابة
من فضلكم
أبعدوا الشعر عني
لقد حال بيني
وبين الفضاء الذي
كنت أمشي عليه بقلبي
واصطاد ما أشتهي
من نجوم
ومن سحب شاردة"
لقد اصطدم عبدالعزيز المقالح بجدار الوطن. سالت لغته على ذلك الجدار كما لو أنها كانت دائما بقعة دم.