الخميس - 12 مايو 2022 - الساعة 02:35 م
بقدر ما تبدو الجماعة الحوثية منسجمة ومركزية القرار في هذه الأثناء وخصوصا بعد إنهاء حالة الازدواج التي كانت تتمثل في وجود حليفين متنافرين سياسيا وعقائديا هما حزب المؤتمر الشعبي العام والحوثيون حتى ديسمبر 2017، إلا أن الصورة الحقيقية لمن يقترب من نواة الجماعة من الداخل يدرك أن ثمة انقسامات أعمق ومراكز قوى أكثر مما قد يعتقد البعض في باطن هذه الجماعة الأيديولوجية المغلقة على نفسها.
ومن يقرأ في تاريخ الدول الإمامية التي تعاقبت على حكم مناطق من شمال اليمن عبر التاريخ، يدرك جيدا أن الصراع بين هذه الدويلات التي يعد الحوثي امتدادا لها، مسألة وقت فقط، وقضية مؤجلة يتم ترحيلها عادة حتى الانتصار على الخصوم “الخارجيين” والداخليين، ثم يبدأ مسلسل النزاع داخل هذه الدويلات وفقا لأسس قائمة على مبادئ عقدية يشوبها الخلاف حول مفاهيم “المفضول” و”الأفضل” والحق بالولاية والخروج عن الإمام الجائر.
وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على واقع الخلافات الظاهرية التي نشبت منذ تأسيس الجماعة الحوثية، نجد أن الصراع بدأ مبكرا حتى منذ الوهلة الأولى لبروز النشاط الحوثي في محافظة صعدة (أقصى شمال اليمن)، وكان هذا الخلاف امتدادا لخلافات قديمة يدور بعضها حول مسائل عقدية تتعلق بالمذهب ذاته وأخرى تتمحور حول النفوذ الديني والصراع على المرجعية، وظهر ذلك جليا في الخلافات التي دبت بين تيارين رئيسيين في صعدة، الأول بقيادة المرجع الزيدي مجدالدين المؤيدي والآخر ذلك الذي قاده بدرالدين الحوثي والد مؤسس الجماعة الحوثية حسين الحوثي الذي تبنى خطابا أكثر تصادمية مع الدولة ومع التيارات الزيدية الأخرى وعزز نفوذه في نهاية المطاف عبر مسار متطرف قائم على الارتباط بالمشروع الإيراني لتصدير ما يسمى “الثورة الإسلامية”.
ولم ينته الصراع داخل البيت الحوثي حتى بعد حسم الصراع مع التيارات المغايرة داخل البيت الزيدي (الجاردوي) في معقل الجماعة بصعدة، فسرعان ما ظهر صراع جديد بين عبدالملك الحوثي ومحمد عبدالعظيم الحوثي والذي تحول في مراحل متقطعة إلى صراع مسلح بين أتباع ومريدي الطرفين، لكنه ما يزال تحت السيطرة، نتيجة لما يبدو أنه رغبة ملحة يبديها زعيم الجماعة الحوثية الحالي لتأجيل هذا الصراع، حتى الانتهاء من حسم خلافاته الإقليمية بالطريقة التي يتوقعها، قبل التفرغ لتنظيف البيت الحوثي ذاته من المختلفين أو المعارضين.
وليس هذا الانقسام الكلاسيكي الذي أوردته سابقا هو التحدي الحقيقي في ما يتعلق بمستقبل الانقسامات المخفية داخل الحركة الحوثية بأبعادها السياسية والاجتماعية والعقائدية، بل رأس جبل الجليد الظاهر من هذا الصراع المؤجل والذي ينتظر فقط لانتفاء مبررات انتهاء الصراع مع الداخل والإقليم وانتهاء الحرب، حتى تبدأ جولة جديدة وعنيفة من الصراع على السلطتين الدينية والسياسية إلى جانب الثروات التي باتت إحدى نقاط تشكيل التحالفات الرئيسية بين القيادات النافذة داخل الجماعة والتي صرفت كثيرا من جهدها في ابتكار طرق وتكتيكات لمراكمة الأموال بسبل مختلفة وعبر شبكات نفوذ واسعة تضم العشرات من القادة الميدانيين، أو ما يطلق عليهم تسمية “المشرفين” في المدن والمحافظات الذين يحملون على عاتقهم الجزء الأكبر والعلني من عمليات النهب المنظم تحت عناوين مختلفة، ترتبط حينا بالحرب ومتطلباتها المالية وأحيانا أخرى يتم جبيها تحت لافتات دينية تتعلق بالخمس والزكاة.
والحقيقة الماثلة اليوم هي أنه لا يمكن بسهولة الحديث عن شخصية قوية داخل الجماعة الحوثية قادرة على إدارة دفة المناطق الخاضعة لسلطة الانقلاب بذاتها، ولكن هناك العشرات من الرؤوس التي برزت من داخل البيت الحوثي والبيوتات المجاورة له في المكانة الدينية والسلالية، وباتت تشكل اليوم خلايا عنقودية تتزاحم لتوسيع دائرة النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني وتخوض في ما بينها صراعا هادئا تحت السيطرة حتى الآن، قد يخرج قليلا عن الطور عبر عملية اغتيال مفاجئة هنا أو هناك في بعض الأحيان.
وفي ضوء خارطة القوى التي تشكلت خلال السنوات السبع الماضية، والتي يبدو أن تغييرها بشكل كبير وجوهري في المرحلة القادمة أمر بالغ الصعوبة، تحول زعيم الحوثيين القابع في إحدى الكهوف السرية في صعدة إلى أيقونة سياسية وأيديولوجية للجماعة بكل فروعها، لكن في ظل تأثير ضعيف وغير فاعل وكاريزما مصطنعة على تلك الشبكات المنتشرة والمتشعبة، التي تشكلت في نواة الجماعة ورمز ثقلها السياسي والعسكري والتي بات كل منها يسعى لتعزيز نفوذه أو المحافظة على مكاسبه عبر عقد تحالفات جديدة داخل الجماعة الحوثية ذاتها أو الاستقواء بقوى أخرى خارجية باتت تتمتع بنفوذ وتأثير متزايد في الجماعة، ومن أبرزها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، وقد تعاظم الدور الخارجي في ترجيح موازين القوى بين التيارات الحوثية بشكل لافت، بعد وصول ضابط الحرس الثوري الإيراني حسن إيرلو إلى صنعاء وتحوله إلى مركز استقطاب وسيطرة على تلك التيارات ودعم المتطرف منها لصالح تعزيز أجندة طهران داخل الجماعة الحوثية وإلغاء أي هامش للاختلاف أو التباين مع خطاب إيران وأهدافها السياسية والعسكرية في المنطقة.
وفي الواقع أن هذه الصورة المقربة لحقيقة الجماعة الحوثية من داخلها قد تجيب عن بعض أسباب فشل الحوثية في تحقيق أهدافها الثقافية والاجتماعية، على الأقل نظرا لفشلها في تقديم نموذج يخدع اليمنيين ويوازي قليلا بين شعارات “الفضيلة” التي يتبناها خطاب الجماعة الإعلامي وبين تصرفات قادتها المزرية على الأرض، كما تجيب هذه الصورة إلى حد بعيد عن أسباب تعثر أي حلول محتملة لتحقيق السلام في ما مضى أو في ما هو آت، مع غياب القيادة الحوثية المركزية القادرة على اتخاذ قرار مثل قرار “السلام”، وهو قرار قد يلحق الضرر بمصالح العشرات من قادة الجماعة السياسية والعسكرية التي ارتبط بقاؤها واستمرار نفوذها السلطوي والاقتصادي باستمرار الحرب.
العرب اللندنية